الاثنين، 4 فبراير 2008

عندما يصبح الخيال واقع مجرد


الجزء الرابع من لعبة التل الصامت،


رؤية فنية




تبدأ اللعبة بتعليق بسيط ومهم من بطل اللعبة هنري يشتكي فيه من المشكلة التي تؤرقه منذ أن أفاق من النوم قبل 5 أيام ويخبرنا بأن عالمه قد تحول إلى جنون وخوف منذ تلك اللحظة , لقد أصبح عالقاً في الشقة التي يسكن فيها ولا يستطيع الخروج أبداً, الباب موصد من الداخل والنوافذ لا يمكن فتحها كما أن أحداً في الخارج لا يستطيع سماعه عندما يستغيث ويطلب النجدة, حقيقة تجبر اللاعب منذ البداية على الإحساس بالاختناق والحصار, لكنها في نفس الوقت تحضره لما هو أسوأ من الحصار, ثم ما يلبث هنري أن يجد حفرة في الحمام تقوده إلى مكان آخر , قد يبدو منذ الوهلة الأولى أن الحفرة ليست سوى تكرار لفكرة تم طرحها مراراً وتكراراً في أفلام الخيال العلمي وهي الانتقال عبر الزمن من خلال هذه الحفرة التي تشبه الآله , لكن الحقيقة هي غير ذلك كما سيتضح لنا من خلال التقدم في أحداث اللعبة أكثر .ينتقل هنري عبر الحفرة إلى مكان ليس بغريب عليه وهو منطقة القطارات السفلية القريبة من شقته , ويبدأ في مواجهة الوحوش والأشياء الغريبة المعتادة في سايلنت هيل ليتضح لنا مباشرة أنه لا يعيش في العالم الطبيعي وإنما في عالم بديل ومتحول , ولكن ما السبب؟ وما الذي جاء بهنري إلى هذا العالم؟ ولماذا ؟ ... لا أحد يعرف , الشيء الوحيد الذي يمكن استنباطه هو شخصية هنري الخجولة واللامبالية والتي تجسد حالة الخوف الممزوجة بالشوق لرؤية بشر أخيراً, هذه الحالة التي تسيطر على هنري منذ أن اكتشف أنه محبوس في الغرفة , فتبدو عليه السعادة حين وجد الفتاة سينثيا, ولكن مع تقدمهما في المكان يتم حصارهما "مرة أخرى" بالوحوش والأشباح وتتم مطاردتهما حتى الوصول إلى منطقة التذاكر الخاصة بالقطارات, سينثيا تسبق هنري إلى المكان وعندما يصل متأخراً قليلاً يجدها ممددة على الأرض وغارقة في دمائها, لقد تم قتلها بطريقة وحشية, مشهد يذكرنا بالجزء الثاني عندما ماتت ماريا وغرقت في دمائها هي الأخرى , غير أن اللاعب لن يحزن على سينثيا لأنه لن يجد بعداً عاطفياً يجذبه نحو التعاطف معها إضافة إلى افتقاد هذه الشخصية للبعد الإنساني من خلال تواجدها داخل حلم ,حيث ينتهي المشهد الذي يصور موتها ووداع هنري لها قبل أن يصحو في الشقة ويكتشف أن كل ذلك كان حلماً. لكن هنري يطل من النافذة ويرى سيارة إسعاف تقف قرب الأنفاق الخاصة بالقطارات , كذلك يتم الإعلان في الراديو عن اكتشاف جثة سينثيا وهنري يسمع هذا الخبر, ما الذي يحدث حقاً ؟ هل الحلم مازال مستمراً أم أن موت الفتاة لم يكن حلماً أصلاً ؟ , لا شيء واضح حتى الآن والإحساس بالحصار والاختناق ما زال هو العنصر المسيطر على أجواء اللعبة, يجد هنري مذكرة يبدو أن أحداً دسها له من تحت الباب تفيد بأن صاحبها في معرض تحقيق بوليسي حول جرائم يرتكبها مجرم متسلسل ويترك أرقاماً معينة على ضحاياه, فيتذكر هنري ذلك الرقم الذي كتب على الفتاة سينثيا, إنه أمر مريب فعلاً أن تكون هذه الفتاة إحدى ضحايا هذا المجرم ويشهد هنري موتها في منامه (أو بالأحرى في حلمه), شخص آخر أيضاً من الخارج يحاول إيصال معلوماته التحقيقية حول هذه الجرائم إلى هنري, وعلى الرغم من أن هنري لا دخل له في كل هذه الأمور , إلا أنه من الآن وصاعداً يشهد الكثير من الأحداث المتعلقة بهذه الجريمة وفي كل مرة يدخل فيها إلى الحفرة يكون شاهداً على موت أحد ما ولا يستطيع المساعدة, كما يتلقى أيضاً أوراق ذلك الشخص التحقيقية أولاً بأول, ومع كثرة الشخصيات المتواجدة في القصة, وعدم ترابط الأحداث حتى الآن , يجد اللاعب نفسه في متاهة درامية, قد تصيبه بالدوار "أو ربما الشجن", حيث يتساءل اللاعب تلقائياً ,من يكون ذلك الشخص الذي يترك أوراقه لهنري تحت الباب؟ وما علاقته بالغرفة؟, وماذا يعرف عن هنري ؟ وهل الخطاب في كل مرة موجه إلى هنري أم أن الرجل يكتب مذكراته وحسب؟ إذا كان يكتب مذكراته وحسب, فلماذا يجدها هنري عند بابه في كل مرة يذهب فيها عبر الحفرة ويعود مستيقظاً من فراشه؟ربما يكون ذلك مرتبطاً زمنياً بالجرائم التي تحصل,ولكن المهم أن هنري لا يلعب أي دور في هذا الصراع , بل يكتفي بالمشاهدة الأمر الذي قد يؤدي إلى تداعي تصورات ورؤى تحليلية كثيرة إلى ذهن اللاعب,مع التقدم في اللعبة أكثر, نكتشف أن ذلك الشخص الذي كان يسكن قبل هنري في الشقة هو صاحب المذكرات (جوزيف شرايبر) وأنه كان قد أغلق الباب على نفسه لمدة طويلة جداً , ولم ير بعد ذلك أبداً حتى بعد أن تم فتح الباب, قد يكون هذا هو الخيط الذي يقود اللاعب إلى اكتشاف الحقيقة, فجوزيف شرايبر صحفي كان يجري تحقيقاً صحفياً حول جريمة أحد المجرمين المتسلسلين ويدعى والتر سوليفان, فسوليفان كان يترك دائماً أرقاماً تسلسلية على ضحاياه تنتهي بــ ..121 إشارة إلى رقم الضحية من أصل 21 ضحية ينوي قتلها,الذين راحوا ضحية لجرائم والتر بلغ عددهم عشرة أشخاص قبل أن يتم القبض عليه ثم ينتحر في زنزانته, الأمر الغريب الذي حصل هو أن الشرطة بعد 3 سنوات من انتحار والتر بدأت في اكتشاف جثث أخرى وقد كتب عليها نفس الأرقام الخاصة بوالتر سوليفان وقد وصلت إلى العدد 13, مما دعا الشرطة للقول بأنها مجرد تقليد لجرائم والتر البشعة, ولكن جوزيف لم يقتنع بما تقوله الشرطة, وبدأ في تحقيقه الخاص,ثم مع الوقت بدأ هذا العمل التحقيقي يستحوذ عليه ويطارده ويسيطر على أفكاره, حتى أنه نبش تاريخ والتر سوليفان منذ مولده وحتى مماته مما خوله معرفة الدوافع والأسباب وراء قيامه بهذه الجرائم, وهو ما يستحوذ على القسم الأكبر من اللعبة , بل يمكننا القول بأن والتر هو محور القصة الأساسي.قصة سوليفان كما يلخصها جوزيف شرايبر في مذكراته هي أن والتر سوليفان تركه أبواه في الشقة رقم 302 مباشرة بعد ولادته , وهي نفسها الشقة التي يقطنها هنري حالياً, أول من وجد والتر ملقىً لوحده في الشقة هو مالكها فرانك صندرلاند(لا تسألني إن كان له علاقة بجيمس الجزء الثاني أم لا ... لا أعرف, ربما), فأرسله مباشرة إلى المستشفى لتتم العناية به قبل أن يرسلوه إلى الميتم المدعو "بيت الأمنية" لتتم تربيته هناك, بيت الأمنية هذا كانت تديره طائفة التل الصامت المنحرفة التي عرفنا عنها في الجزء الأول, فبدأت بتعليم الصغار تعاليم وطقوس ديانة التل الصامت بطريقة وحشية تعتمد على زرع الكراهية في نفوسهم, وبعد أن بلغ والتر السادسة, أخبره أحد أعضاء الطائفة بأنه ولد في الشقة 302 في مبنى مرتفعات أشفيلد , وتم السماح له بالذهاب لعله يجد أمه هناك, لكنه منذ تلك اللحظة ظل يعتقد بأن الشقة 302 نفسها هي أمه, ربما لأن عقله الصغير لم يحتمل حقيقة أن أمه قد تركته, فظل طوال سنوات يسترق النظر نحو الشقة معتقداً بأنها أمه حتى اشتكى منه الناس ومن كثرة مجيئه إلى المبنى, ومع الوقت كان يزداد تأثراً بمعتقدات الطائفة وتعاليمها ,ويحفظ عبارات كثيرة أهمها" هبوط الأم المباركة وتضحية الـ21 " كما يزداد كرهاً للعالم الخارجي والناس عامة , وبعد سنوات غادر الميتم ودخل الجامعة ودرس الطب , وكان الهوس بتعاليم الطائفة المنحرفة ما يزال مسيطراً عليه جنباً إلى جنباً مع كراهيته للناس, فقرر البدء بقتل 21 شخصاً معتقداً بأن ذلك قد يوقظ أمه النائمة أو يساعد في هبوطها كما تقول تعاليم الطائفة المنحرفة. وبعد أن استحوذ هذا الهوس التحقيقي على جوزيف كلياً .. كان سوليفان قد ابتدع عالمه اللاوعي الخاص به ,ابتدعه من خلال أوهامه التي ارتبطت بالهوس والطقوس الطائفية المنحرفة, عالم بديل يجذب ويمتص الضحايا إليه, ومنهم جوزيف شرايبر نفسه بعد أن أغلق على نفسه الغرفة عمداً, وهو ما يفسر اختفاءه من الغرفة التي كان فيها , والجميل هنا ليس أن هنري تم امتصاصه إلى هذا العالم أيضاً فقط, بل أن هنري (الذي يفترض به أن يكون بطل اللعبة)مجرد شاهد على موت بعض الأشخاص الذي تم اعتبارهم تضحيات للأم المباركة في عالم والتر, وذلك حتى يأتي دوره هو وجارته الفتاة إيلين في الموت , فيقرر فعل شيء وتغيير خطة والتر لإنقاذ نفسه مع إيلين,ومن خلال عالم والتر أصبح الخيال المجرد واقعاً من لحم ودم, قد يتفق البعض أو يختلفون في مدى اتقانه أو مطابقته الواقع الحقيقي, ولكنه موجود,وتم تجسيده بطريقة عجيبة أقرب إلى الإيحاء, وهذا المفهوم يزداد عمقاً عندما ندخل إلى تفاصيل الدراما , أي عندما يتوغل هنري في عالم والتر أكثر وأكثر , وعندما تبدأ الأشباح في غزو شقته والدخول إليها تدريجياً , ويبدأ رحلة الدفاع عن نفسه ومحاولة الهرب مع إيلين من عالم والتر, وعندما يعرف هنري أن إيلين متعاطفة مع والتر, يدخل في معركة أخرى من أجل إقناعها بالهروب , إيلين التي عرفت والتر الصغير من زمن بعيد كما تحكي مذكرات والتر, مستعدة للتضحية بنفسها من أجل إكمال طقوس التضحية, ورغم غياب دافع قوي ومقنع إلا أنها تجر هنري معها, هنري الذي أصبح هو الآخر مستعداً للتضحية بحياته من أجل "العيش مع إنسان" مرة أخرى, ومن أجل إيلين, لأن حياته لا تساوي شيئاً عندما يكون وحيداً, وهكذا فإن إرادة والتر التي تسيطر على إيلين تجر الاثنين(إيلين وهنري) نحو الموت. إن هذه النهاية المنطقية تنزع عن اللعبة قناع النهايات التقليدي وتنطلق بها إلى مستوى فني يعطيها الأحقية بالتفرد في مضمونها ودلالاتها, فلأنها نهاية حزينة وسوداوية في ظاهرها, إلا أننا نرى الصبي الصغير والتر سوليفان وقد اجتمع بأمه أخيراً , ونرى الفتاة إيلين وقد ضحت بنفسها من أجل حلم صبي صغير بالالتقاء مع أمه والتحقت بالضحايا السابقين برضاها, وكذلك نجد بطل اللعبة وقد قاد نفسه إلى الهلاك مع من يحب بعد أن أدرك حقيقة نفسه التي لا تطيق العيش بمفدرها, إذاً هي نهاية سعيدة وحزينة معاً, لا تفاجئ اللاعب بتحول درامي عنيف كما تعتمد على حبكة شديدة الاتفاق فيها بعض التعقيد البوليسي, والحقيقة أن اللعبة حافظت على حالة من الشجن الغامض والحزن التي تصيب اللاعب في أجواء اللعبة. وتبدو شخصية هنري بطل اللعبة –وتلك هي المفارقة- غير فاعلة في دراما اللعبة لكن ظهوره من بداية القصة إلى آخرها أسهم في ربط الأحداث والشخصيات-التي تتضمن أكثر من عشر وربما أكثر من القصص التي تدور في عالمين مختلفين- , ولنتأمل علاقة بطل اللعبة بشخصيتين أساسيتين, أولهما جوزيف شرايبر , الرجل الذي كان يقطن الشقة قبله وكيف كان هنري يتلقى مذكراته وكأنه يتلقى الحكمة كما قالت عنه بطاقة الجريمة المعنونة الخاصة به , وقبل أن نكتشف الحقيقة , وعندها كنا نتساءل أسئلة منطقية تتعلق بالخيال العلمي وغيره, لكن الأمر يختلف هنا تماماً إذ إننا أمام فرضية درامية يسهل على اللاعب استيعابها وهو الذي يحمل في وجدانه ذكريات"الأجزاء الثلاثة السابقة" الحافلة بمثل هذه الافتراضات الخيالية عبر أزمنة وأمكنة وعوالم مستحيلة, حتى إن لم يكن لها تفسير, بل علينا أن نقول أن سحرها ذاته ينبع من عدم وجود تفسير عقلاني, وبعد أن يدرك هنري أن فجوة زمنية تفصل بينه وبين جوزيف وأنه يعيش الآن ذكريات جوزيف, ندرك معه المغزى من تبادل الأفكار عبر الرسائل الحمراء من تحت الباب في حوار من طرف واحد يتيح لنا الدخول إلى عالمهما الخاص بهما , وعالم والتر الذي يربطهما معاً.ثم هناكً العلاقة شبه الرومانسية التي تربط هنري وإيلين, وكيف نزعت اللعبة عن الشخصيتين جوهرهما الرومانسي, ونحن نعلم تماماً أن الشخصيات الرومانسية يتصرفون على نحو لا يخضع للمنطق الواقعي ومختلف عما يحدث في الحياة , فإذا ما وجد كل منهما الآخر تركا العالم جانباً ولم يفكرا إلا أن يكونا هما ذاتهما "العالم" أيا كانت التضحيات, والواضح أن هنري وإيلين لم يعطيا في القصة الحق في فعل ذلك ولم نر أنهما لا يهتمان بأي شيء في داخل العالم الفني إلا عواطفهما الجياشة تجاه بعضهما, وفي العادة فإن مثل هذه القصص تنتهي بالضرورة بلقاء الحبيبين ويقائهما معاً على قيد الحياة, وهو عكس ماحصل في اللعبة , فتم نزع الجوهر الرومانسي, والإبقاء على فكرة حاجة كل منهما إلى الآخر حيث بقيت النهاية عند أزمة الشخصيتين الذين لدى كل منهما ما يؤرقة كفاية, فالأهم هو تلك الحالة من الشجن والوفاء, وهو ما أعطى اللعبة قصدها الفني تماماً.
..انتهى..

ليست هناك تعليقات: