
الجزء الثاني...
صراع داخل عقل مجرم॥(ممتاز)جيمس صندرلاند أحد زوار مدينة التل الصامت القدامى فقد كان يرتادها مع زوجته قبل أن تموت بسبب مرض خبيث أصابها। يقرر جيمس أن يزور المدينة مرة أخرى ليس لغرض السياحة هذه المرة ولكن لأنه تلقى رسالة يقول صاحبها بأن جيمس قد وعده مرات عدة باصطحابه إليها ولكنه لم يفعل, صاحب الرسالة يذكر أنه اليوم هناك في تلك المدينة وحيد وينتظر جيمس في مكانهما الخاص।رسالة لا تدعونا إلى التساؤل عن كاتبها بقدر ما تدعونا إلى تخمين كاتبها, وذلك قبل أن نكمل قراءة الرسالة لنجدها مذيلة باسم ماري صندرلاند , زوجة جيمس الميتة। جيمس متواجد الآن في استراحة على مشارف مدينة التل الصامت يحاول إقناع نفسه بأن ما يفعله معقول وأن زوجته من الممكن فعلاً أن تكون موجودة هنا ومنتظرة إياه , ولكن جيمس يبدو عليه الحزن واليأس منذ البداية, وبين مد وجزر في تصديق الرسالة وعدم تصديقها يبدأ جيمس رحلته في البحث عن زوجته وهو غير مقتنع تماماً بما يفعل وغير عارف بما هو مقدم عليه। فمن هنا نرى البداية المشوقة التي لا يسع اللاعب أو المشاهد تجاهها إلا أن يشمر عن ساعديه ويبدأ في البحث والاستقصاء ويتابع مع اللعبة ما يمكن أن يحصل بعد ذلك من أحداث , لعله يكتشف في النهاية أن جيمس مجنون أو أن زوجته لم تمت أصلاً , أو أن جيمس كذاب أو مختل عقلياً ولم يتلق رسالة من الأساس , فكلها نهايات ممكنة ومعقولة تماماً ।تبدأ اللعبة في دخول عالمها الدرامي مباشرة بعد مشهد البداية الذي يقف فيه جيمس ليروي سبب قدومه إلى هنا وسبب تغير وتأرجح رأيه بين الشك واليقين ويبين الإغراءات والدوافع التي تحركها الذكريات والعاطفة العمياء في أن زوجته التي أحبها تنتظره وتريده إلى جانبها, وفي مقابل ذلك برهان العقل الرادع وقوة المنطق السليم في أن الميت لا يمكن أن يكتب رسالة । وكأن اللعبة تضعنا منذ اللحظة الأولى في موقف التوحد مع الشخصية الأساسية.ثم من خلال صراع العقل مع العاطفة تؤسس اللعبة جوها الخاص وتضع محور القصة الأساسي في الواجهة بطريقة عوجاء وملتوية ولكن مميزة, حيث تبدأ أشياء غريبة ومبهمة في الظهور , الوحوش غريبة الأشكال والدماء والجثث المنتشرة في كل مكان والعالم الغريب , ولكن جيمس لا يبالي بكل هذا , تماماً مثل هاري ميسون , من شدة الشغف والشوق للقاء الشخص الذي يبحث عنه لم يعد يكترث بكل ما يصادفه من أهوال قد يبدو منذ الوهلة الأولى أن جيمس لا يفهم منها شيئاً , ولكن قد يبدو لصاحب النظرة الفاحصة والمتمعنة أنها ليست إلا مقدمات للخط الدرامي الطويل الذي تدور حوله أحداث القصة, وذلك لحين اكتشاف حقيقة جيمس عند النهاية . جيمس الشخصية المهزوزة منذ البداية يكمل مسيرته إلى المكان الخاص الذي ذكر في الرسالة , وفي رحلته يلتقي العديد من الشخصيات أكثر من مرة , أنجيلا الفتاة الخائفة التي لم تستطيع العثور على عائلتها حتى الآن ويبدو أنها متوترة وبينها وبين نفسها تبحث عن مبرر لقدومها إلى هنا , وإيدي الذي يبدو هو الآخر غامضاً إلى حد كبير ,والفتاة الشقية وغريبة الأطوار لورا, ثم ماريا التي تشبه ماري كثيراً , ومن خلال لقاء جيمس مع هذه الشخصيات بالتعاقب تبدأ الحقائق بالتكشف شيئاً فشيئاً , حقيقة جميع الشخصيات وحقيقة المكان والعالم الغريب بطريقة تدريجية وسلسة. يكتشف جيمس في البداية أن شيئاً ما جذبه إلى المدينة كما جذب إيدي وأنجيلا , كما أن الشخصيات التي يقابلها تحاول إقناعه بأنه هارب من شيء ما ولكنه غير مقتنع تماماً , إنه مجرد استنتاج مبدأي وجيمس غير مستعد للتخلي عن أمله في العثور على ماري بهذه السهولة , فالأمنيات الوهمية والتي افتعلها جيمس بنفسه والمبنية على أساس العاطفة لا تزال تسيطر على تفكير جيمس وتجبره على إنكار استنتاجات واقعية ربما تجره إلى مخاوف قديمة . جيمس يجد ماريا ويتعلق بها, ومنذ لحظة لقاء جيمس بماريا تدخل اللعبة مرحلة جديدة من الغموض يجدها اللاعب في أغلب الأحيان كأنها وهمية تخيلية وأشبه ما تكون بالمنام أو الحلم ومليئة بالرموز والدلالات. فماريا تشبه ماري تماماً وجيمس يريدها إلى جانبه كما يريد إكمال بحثه عن ماري أيضاً, لقد اختلطت الأمور بالنسبة إليه , ولم يعد يعرف هل يصدق ماريا التي تقول بأنها هي ماري "كما أرادها" أم يصدق قلبه الذي يدفعه للبحث عن ماري التي ماتت . يتم اغتيال ماريا أمام عيني جيمس وبطريقة مخيفة على يد أحد الوحوش ويعجز جيمس عن إنقاذها, وتختلط مشاعره مرة أخرى ويأخذ تفكيره في التذبذب بين الحسرة على ماريا والحنين لملاقاة ماري التي لا يزال يعتقد بأنها تنتظره , وحتى الآن الملامة بادية على وجهه وعليه أن يفعل شيئاً ما حتى يصل إلى ماري .وبينما هو يكمل بحثه في المدينة, تقوده قدماه إلى سجن قديم ويجد ماريا في إحدى الزنزانات وهي على قيد الحياة ولم يصبها أي مكروه, فيستغرب جيمس من هذا الأمر بطبيعة الحال كما أن ماريا هذه المرة تبدو مختلفة تماماً , تتحدث عن أشياء لم يعرف بها غير جيمس وماري فقط, وما يثير الاستغراب والتساؤل أكثر هو أن ماريا تصر على أنها ليست ماري ولكنها ستكون ماريا إذا أرادها جيمس أن تكون كذلك, وما قام به الآن لم يكن غريباً أبداً حينما طلب إجابة مقنعة فهو دائما مشوش وكثيراً ما يخلط الأمور ببعضها, ولكنه أصر على التوجه مباشرة للطرف الآخر من الزنزانة , وهذا يعني أن مخاوفه بدأت تتبدد وبدأ في التفكير على نحو مختلف ,ففي البداية أراد ماري, ثم ظهرت له ماريا ولم يقبلها, وها هو الآن يجد ماري وليست ماري القديمة , بل ماري جديدة , كما يريدها ويتمناها لا كما يتذكرها , وهذا بحد ذاته انعطاف جذري نحو حلم جديد بدأ يدغدغ مخيلة جيمس وتحد كبير لمطالب وأهداف جيمس منذ بداية المغامرة, ولكن هذا الحلم يتم اغتياله بسرعة عندما يصل جيمس إلى الزنزانة ويكتشف أن ماريا قد تم قتلها بطريقة وحشية ومؤلمة . وكأن اللعبة تمنح الفرصة للاعب بأن يتساءل بينه وبين نفسه عن سبب تعاطفه مع جيمس وتعلقه بحلم مؤقت حتى النهاية ,حيث يجد اللاعب نفسه في موقف وقد انجذب بسذاجة وراء خدعة تناقضات ذكية تجبره على التخلي عن قواعد المنطق الواقعي لكي يستمتع بالموقف, وعلى الرغم من أنه موقف مركب ومصطنع لفكرة واقعية وهدف أسمى, إلا أنه نجح فعلاً في أن يقهر اللاعب بجعله يشعر بالحزن والمرارة على ضياع الحلم وفي نفس الوقت يشعر بالغضب والمقت لموت ماريا "مرة أخرى" , وهذا ما جعل الموقف يستحق الإطراء بقدر ما يستحق التأمل.يمضي جيمس في مسيرته وقد فقد هذه المرة كل أمل بالعثور على ماري, واقتنع تماماً بأن شيئاً ما قد جذبه لهذه المدينة لأجل أن ينتقم منه أو يعذبه , لقد كان اليأس والأسى قد سيطرا على تفكيره عندما وصل للفندق الذي كان يقيم فيه مع ماري قبل أن تموت, ليجد رسالة وقد كتب عليها "أنا بانتظارك" , فيعتقد بأن هذه الرسالة أيضاً من ماري الميتة ويذهب إلى الغرفة ليجد شريط فيديو يكشف لنا الحقيقة كاملة. يظهر الشريط صورة ماري وهي تضحك وسعيدة بالحياة الهانئة التي عاشتها في التل الصامت , ثم تختفي تلك الصورة وتظهر صورتها وقد أفسدها المرض وأنهك جسمها العلاج الذي لا فائدة منه, ثم يظهر جيمس ممسكاً بالوسادة التي كانت تحت رأس ماري واليأس يعتصر جسمه ثم يكتم أنفاس ماري حتى تموت .هنا النهاية غير المتوقعة والتي لم تكن في الحسبان حيث اتضح أن جيمس كان قد قتل زوجته قبل أن يأتي إلى التل الصامت , لا يهم إن كانت قد ماتت قبل 3 سنوات أو 3 أيام أو أسبوع , المهم أنها ماتت , وجيمس نفسه هو من قتلها. واتضحت حقيقة أوهام جيمس وكذبه واتضح فعلاً أن الميت لا يمكن أن يكتب رسالة. إنما يبدو أن شيئاً ما أراد أن يعذب جيمس على فعلته فاستدرجه إلى هنا بحجة الرسالة, ويبدو أن جيمس قد حزن جداً على موت ماري وتمنى لو أنها تعود , لذا صدق الرسالة ونسج أحلامه عليها .إنها نهاية بسيطة وتتسم حقاً بقدر من الواقعية حيث نجد أن اللعبة نجحت في مد جميع الخطوط الدرامية إلى النهاية, وبالأخص في ما يتعلق بقصة جميع الشخصيات المتواجدة في اللعبة(حيث تم استدعاء إيدي وآنجيلا وماريا إلى المدينة كل لغرض معين) والتي في الواقع توازي القصة المحورية للبطل وتغذيها وتخدمها. وإذا ما نظرنا بتأمل إلى الأحداث التي وقعت منذ لقاء جيمس الأول مع ماريا وحتى نهاية اللعبة, نجد التوتر الدرامي حاضراً بقوة من خلال لقاء جيمس مع إيدي وآنجيلا وماريا واحداً تلو الآخر وبأدوار متعاقبة وبناء سردي متواز أشبه ما يكون بجلسات محاكمة يحاول فيها جيمس معرفة ما يحصل وتبرير أفعاله بينما ينتقده كل واحد منهم أو يذكره بحقيقة نفسه بطريقة أو بأخرى.وقد يمكن أن نعتبر هذه محاولة للإيحاء بأن جيمس هو المذنب , ولكن على الرغم من صعوبة التخمين إلا أن اللاعب ينتقل شيئاً فشيئاً من رفض ما يفعله جيمس إلى الإيمان به , وهي حيلة درامية ذكية لا تخلو من الخبث من جانب صناع اللعبة لكي يجعلوا اللاعب أقرب إلى التعاطف أو التوحد مع المجرم. هناك أيضا ًقراءة أخرى لما بين السطور تدعو للقول بأن نهاية اللعبة مفتوحة وتحتمل أكثر من تفسير, حيث تعمد صانعوا اللعبة أن يتركوا الباب مفتوحاً للاعب لكي يفسر على طريقته إذا ما كان العالم الذي تدور حوله أحداث اللعبة واقعاً أم خيالاً وذلك من خلال إدراكك لموقفين,الأول :هو واقعي إذا أدركت أن قوى الظلام الخاصة بالتل الصامت والتي لا ترضى بالظلم هي من أرسل الرسالة لجيمس ليقع في الفخ ويأتي على قدميه . الثاني : هو خيالي إذا أدركت أن كل ما حصل من نسج خيال جيمس وأنه لم يتلق أي رسالة , بل تخيلها تخيلاً وذلك بسبب الهلوسات التي أصابته بعد موت ماري فأصبح يعيش في عالم اللاوعي. خيط رفيع بين الحقيقة والخيال هو عالم اللاوعي وهو السر الذي يجعل اللعبة تبدو أشبه بالحلم ويعطي الشخصيات في القصة صفات تجعلها غير واعية في تصرفاتها وأشبه بالنائمة عند التعامل مع معطيات القصة ومتطلباتها, وعند ذكر الحلم والمنامات في اللعبة يتبادر إلى الذهن المعنى الحقيقي للحلم ولا بد من التوضيح أن الحلم قرين النوم الاعتيادي الذي يزاوله الإنسان ليل نهار , غير أن المفهوم في اللعبة يتجاوز ذلك , والإشارة هنا أننا في الحياة العادية نعيش شكلاً من أشكال الغفلة والجهالة وأننا في بعض المواقف نزاوج بين الرؤية واللارؤية , بين المعاينة للحقيقة , والسباحة في الخيال , بل إننا نعيش مرات كثيرة ما يمكن تسميته بنوم اليقظة.ولربط هذا المفهوم بمضمون اللعبة , نرى أنه يتناول أيضاً نسبية اليقظة, فاليقظ نائم ضمناً لأنه لا يرى كل شيء فيما يتوهم أن حواسه تسعفه لرؤية كل شيء والإيمان به وتصديقه بلا جدال , وهذا أمر غير وارد, والدليل البسيط أننا لا نستطيع قراءة المستقبل الداهم الذي يأتينا كالسيل الدافق في كل لحظة وثانية, وأننا لا نستطيع معرفة ذواتنا بالرغم من أن أجسادنا الفيزيائية تحمل هذه الذوات, وما بدا واضحاً على جيمس في اللعبة لم يكن بعيداً عن هذا المعنى حيث يتناوب جيمس شكلان من الإبحار في المجهول, الأول يتعلق بأضغاث الأحلام التي تعبر في الجوهر عن أوهامه وقلقه الداخلي وتشظياته ومخاوفه المعنوية, ولا تؤدي إلى رؤية حقيقية, والشكل الثاني يتمثل في الرؤيا التي تكون نقية صافية كفلق الصبح, وفيها يبحر تفكيره فيما يتجاوز النوم الاعتيادي إلى المنام أو الحلم حيث يمكنه معانقة شكل من أشكال الحكمة المدفونة في تلافيف دماغه ومشاهدة بعض من الغوامض والأسرار التي لا يريد عقله الباطن أن يكتشفها بسبب العاطفة التي تسيطر عليه وتريد هي الأخرى استرجاع ذكريات قديمة وجميلة بأي ثمن. حتى إن اللاعب لا يكاد يدرك ذلك الخط الفاصل بين الواقع والحلم (العالم البديل والعالم العادي )أو بين الحقيقة والخيال.والمزج بين الحقيقة والخيال هو جوهر اللعبة وهو الأمر الذي يدركه اللاعب تماماً بعد أن تكون اللعبة قد أشرفت على الانتهاء وبعد انتهاء الصراع , فالصراع هنا ليس بين جيمس وماريا أو ذا الرأس الهرمي أو غيرهما, إنه صراع بين العقل والعاطفة في داخل جيمس, ويلعب عالم اللاوعي الدور الرئيسي في ربط الأحداث والشخصيات , والسبب المباشر في تأجيج المشاعر وأرجحتها بين الإيجاب والسلب .ولقد استفادت قصة اللعبة كثيراً من تناقض حكاية الجزء الأول مع أبعادها المعنوية, حيث نجد أن قصة الجزء الثاني نجحت في ترسيخ نفس الفكرة لتتطابق مع الأبعاد المعنوية والإنسانية لها ولو بطريقة استغلالية.والفكرة كانت تقضي وتقول بأن التل الصامت به شيء غير عادي وفوق الطبيعة, حتى إنه أصبح يملك قوة تمكنه من أن يعاقب ويضرب بل ويخلق أناساً تلبية لرغبات أناس آخرين.ولعل أجمل ما في قصة اللعبة أنها تجعل حياة إنسان واحد تكفي لكي تكون سبباً جوهرياً لهذه الرحلة الطويلة التي تسعى إلى العدالة الشرعية , إنها رحلة بين عالمين مختلفين, لكنها أيضاً رحلة داخل النفس البشرية , حافلة باكتشاف أبسط الحقائق التي كادت تغيب عن أذهاننا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق